فصل: كِتَابُ الصَّلَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ):

(الِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) هُوَ إزَالَةُ مَا عَلَى السَّبِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُزَالِ بِهِ حُرْمَةٌ أَوْ قِيمَةٌ كُرِهَ كَقِرْطَاسٍ وَخِرْقَةٍ وَقُطْنَةٍ وَخَلٍّ قِيلَ يُورِثُ ذَلِكَ الْفَقْرَ.
قولهُ: (وَاظَبَ عَلَيْهِ) وَلِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً وَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ. قَالَ. فِي الْخُلَاصَةِ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ عَفْوٌ عِنْدَنَا. وَعُلَمَاؤُنَا فَصَلُوا بَيْنَ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَى مَوْضِعِ الْحَدَثِ وَاَلَّتِي عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَدَثِ، إذَا تَرَكَهَا يُكْرَهُ، وَفِي مَوْضِعِهِ إذَا تَرَكَهَا لَا يُكْرَهُ. وَمَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ بِالْمَاءِ، وَمُقْتَضَاهُ كَرَاهَةُ تَرْكِهِ، وَكَذَا مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ قَالت: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ قَطُّ إلَّا مَسَّ مَاءً» وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُشْتَرَكُ الدَّلَالَةِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَسِّ قَبْلَ الْخُرُوجِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْمُرَادُ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إلَّا تَوَضَّأَ» بَيَانًا لِمُلَازَمَتِهِ الْوُضُوءَ وَالْمَطْلُوبُ يَتِمُّ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

متن الهداية:
(وَيَجُوزُ فِيهِ الْحَجَرُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ يَمْسَحُهُ حَتَّى يُنَقِّيَهُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِنْقَاءُ فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ (وَلَيْسَ فِيهِ عَدَدٌ مَسْنُونٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا بُدَّ مِنْ الثَّلَاثِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، فَمَنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» وَالْإِيتَارُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَمَا رَوَاهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَا قَامَ مَقَامَهُ) يَعْنِي مِنْ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ الْمُزِيلَةِ فَخَرَجَ الزُّجَاجُ وَالثَّلْجُ وَالْآجُرُّ وَالْخَزَفُ وَالْفَحْمُ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِكَيْفِيَّةٍ مِنْ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ نَحْوُ إقْبَالِهِ بِالْحَجَرِ فِي الشِّتَاءِ وَإِدْبَارِهِ بِهِ فِي الصَّيْفِ لِاسْتِرْخَاءِ الْخَصِيَتَيْنِ فِيهِ لَا فِي الشِّتَاءِ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: الْمَقْصُودُ الْإِنْقَاءُ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَبْلَغُ وَالْأَسْلَمُ عَنْ زِيَادَةِ التَّلْوِيثِ.اهـ. فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْعُدَ مُسْتَرْخِيًا كُلَّ الِاسْتِرْخَاءِ إلَّا إنْ كَانَ صَائِمًا وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ، وَلَا يَتَنَفَّسُ إذَا كَانَ صَائِمًا وَيَحْتَرِزُ مِنْ دُخُولِ الْأُصْبُعِ الْمُبْتَلَّةِ كُلُّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ.
وَفِي كِتَابِ الصَّوْمِ مِنْ الْخُلَاصَةِ: إنَّمَا يُفْسِدُ إذَا وَصَلَ إلَى مَوْضِعِ الْحُقْنَةِ وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ.اهـ. وَلِلْمَخَافَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُنَشِّفَ الْمَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الصَّائِمِ أَيْضًا حِفْظًا لِلثَّوْبِ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَيَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْطُوَ قَبْلَهُ خُطُوَاتٍ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ، وَفِي الْمُبْتَغَى: وَالِاسْتِبْرَاءُ وَاجِبٌ، وَلَوْ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ كَثِيرًا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَلْ يَنْضَحُ فَرْجَهُ بِمَاءٍ أَوْ سَرَاوِيلَهُ حَتَّى إذَا شَكَّ حَلَّ الْبَلَلُ عَلَى ذَلِكَ النَّضْحِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلَافَهُ، وَلَا يَمْتَخِطُ وَلَا يَبْزُقُ وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَالَ جُلُوسِهِ وَلَا فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَبِالْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الشِّتَاءِ أَفْضَلُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِزَالَةِ بِهِ، وَلَا يُدْخِلُ الْإِصْبَعَ، قِيلَ يُورِثُ الْبَاسُورَ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ تَغْسِلُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلَوْ غَسَلَتْ بِرَاحَتِهَا كَفَاهَا.
قولهُ: (وَلْيَسْتَنْجِ إلَخْ) رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ، إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلَا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَيَسْتَنْجِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَنَهَى عَنْ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، وَأَنْ يَسْتَنْجِيَ الرَّجُلُ بِيَمِينِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، كُلُّهُمْ بِلَفْظِ «وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» وَإِنَّمَا عَزَوْنَاهُ لِلْبَيْهَقِيِّ لِأَنَّهُ بِلَفْظِ الْكِتَابِ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قولهُ: (وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيَلْفِظْ وَمَا لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ، وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَالْإِيتَارُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الْإِيتَارِ لَمْ يَكُنْ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إنَّمَا هُوَ الْإِيتَارُ مِمَّنْ اسْتَنْجَى، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِنَفْيِ إيتَارٍ هُوَ فَوْقَ الْوَاحِدَةِ، َإِنَّ بِنَفْيِ الْوَاحِدَةِ يَنْتَفِي الِاسْتِنْجَاءُ فَلَا يَصْدُقُ نَفْيُ الْإِيتَارِ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ إلَّا بِصَرْفِ النَّفْيِ إلَى كُلِّ مَا ذَكَرَ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَصْلُ الِاسْتِنْجَاءِ إنْ أَحَبَّ، وَمُجَرَّدُ الْإِيتَارِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ فَعَلَ مَا قُلْته كُلَّهُ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ. وَمَا رَوَاهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ جَازَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَدَدُ الْمَسَحَاتِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالثَّلَاثِ لِأَنَّ غَالِبَ الظَّنِّ يَحْصُلُ عِنْدَهُ كَمَا قَدَّرَهُ فِي حَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ لَا لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ فِي الْمُسْتَيْقِظِ، لَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ الِاسْتِجْمَارُ خَاصًّا فِي الِاسْتِنْجَاءِ لَكِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِعْمَالِ الْجَمْرِ فِي الْبَخُورِ كَمَا فِي قولهِمْ تَجَمَّرَ الْأَكْفَانُ فِي الْجَنَائِزِ وَاسْتَجْمَرَ فُلَانٌ: أَيْ تَبَخَّرَ وَاسْتَجْمَرَ ابْنُ صَبِيحٍ الْكَاتِبُ عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ يَشُمُّ الْبَخُورَ فَأَمَرَ مَنْ يَحْبِسُهُ فَاغْتَمَّ وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ فِي مُثُلٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ نَقْلُهَا، فَيَكُونُ لَفْظُ الْحَدِيثِ لِبَيَانِ سُنِّيَّةِ الْإِيتَارِ فِي الْبَخُورِ وَالتَّطَيُّبِ وَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّ الْحَجَرَ لَا يُزِيلُ، وَلِذَا يُنَجَّسُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ إذَا دَخَلَهُ الْمُسْتَنْجَى بِهِ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَهُ وَيَقول جَازَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ طَهَارَتَهُ بِالْمَسْحِ كَالنَّعْلِ، وَقَدْ أَجْرَوْا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْأَرْضِ تُصِيبُهَا النَّجَاسَةُ فَتَجِفُّ ثُمَّ تَبْتَلُّ وَالثَّوْبُ يُفْرَكُ مِنْ الْمَنِيِّ ثُمَّ يَبْتَلُّ فِي عِدَّةِ نَظَائِرَ قَدَّمْنَاهَا، وَقِيَاسُهُ أَنْ يَجْرِيَا أَيْضًا فِي السَّبِيلِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ إجْمَاعٌ فِي التَّنَجُّسِ بِدُخُولِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ، ثُمَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَ كَثِيرٍ فِي تِلْكَ النَّظَائِرِ أَنْ لَا يَعُودَ نَجِسًا، وَقِيَاسُ قولهِمْ أَنْ لَا يَعُودَ السَّبِيلُ نَجِسًا وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُنَجِّسَ الْمَاءَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِاخْتِلَافٍ فِي تَنَجُّسِ السَّبِيلِ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ، فَعَلَى أَحَدِ الْقوليْنِ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ صَرِيحًا، هَذَا وَأَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْعَرَقِ حَتَّى لَوْ سَالَ الْعَرَقُ مِنْهُ وَأَصَابَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّارِعِ طَهَارَتَهُ بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَالَ: إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» وَقَالَ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا أُطْلِقَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُطَهِّرُ إذْ لَوْ لَمْ يُطَهِّرْ لَمْ يُطْلَقْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ.

متن الهداية:
(وَغَسْلُهُ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ) لِقولهِ تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ كَانُوا يُتْبِعُونَ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، ثُمَّ هُوَ أَدَبٌ. وَقِيلَ هُوَ سُنَّةٌ فِي زَمَانِنَا، وَيَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ إلَى أَنْ يَقَعَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ، وَلَا يُقَدَّرُ بِالْمَرَّاتِ إلَّا إذَا كَانَ مُوَسْوِسًا فَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ بِالسَّبْعِ (وَلَوْ جَاوَزَتْ النَّجَاسَةُ مَخْرَجَهَا لَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا الْمَاءُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: إلَّا الْمَائِعُ، وَهَذَا يُحَقِّقُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَطْهِيرِ الْعُضْوِ لِغَيْرِ الْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسْحَ غَيْرُ مُزِيلٍ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِهِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ الْمِقْدَارُ الْمَائِعُ وَرَاءَ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ تَعَالَى إلَخْ) لَا يُطَابِقُ الْمَدْلُولَ وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ أَفْضَلُ مَا ذَكَرَ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَلُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَفْضَلِيَّةَ الْمَاءِ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ هُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى عَنْهُ إلَّا ابْنُهُ.اهـ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْت أَبِي عَنْهُ فَقَالَ: هُمْ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِمْرَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُمْ ضُعَفَاءُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُمْ حَدِيثٌ مُسْتَقِيمٌ، وَاَلَّذِي يُطَابِقُ الْمَدْلُولَ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَمَّا نَزَلَتْ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطُّهُورِ، فَمَا طُهُورُكُمْ؟ قَالُوا: نَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ، قَالَ: هُوَ ذَاكُمْ فَعَلَيْكُمُوهُ» وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ عُتْبَةُ بْنُ حَكِيمٍ فِيهِ مَقَالٌ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ، وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ الْحَدِيثَ وَصَحَّحَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَلُ ثُمَّ الْمَاءَ ثُمَّ غَيْرَهُ.
قولهُ: (وَقِيلَ هُوَ) أَيْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ سُنَّةٌ فِي زَمَانِنَا، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَتْرُكُونَهُ، فَقَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَرُونَ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَبْعَرُونَ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، هَذَا وَالنَّظَرُ إلَى مَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْفَصْلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُفِيدُ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ لِإِفَادَتِهِ الْمُوَاظَبَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ إذَا وَجَدَ مَكَانًا يَسْتُرُ فِيهِ نَفْسَهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرٍ لَيْسَ فِيهِ سُتْرَةٌ لَوْ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ قَالُوا يَفْسُقُ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ عَوَامُّ الْمُصَلِّينَ فِي الْمِيضَأَةِ فَضْلًا عَنْ شَاطِئِ النِّيلِ.
قولهُ: (مُوَسْوِسًا) بِكَسْرِ الْوَاوِ لِأَنَّهَا حَدِيثُ النَّفْسِ فَهُوَ نَفْسُهُ يَتَحَدَّثُ وَإِذَا فُتِحَ وَجَبَ وَصْلُهُ فَيُقَالُ مُوَسْوَسًا إلَيْهِ أَيْ تُلْقَى إلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ وَفِيمَا نُقِلَ أَيْضًا تَقْدِيرُهُ بِعَشْرِ مَرَّاتٍ أَيْ صَبَّاتٍ لِلْمَاءِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ مِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ الثَّلَاثَ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ السَّبْعَ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ الْعَشَرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَّتَ فِي الْإِحْلِيلِ ثَلَاثًا وَفِي الْمَقْعَدَةِ خَمْسًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِهِ فَيَغْسِلُ حَتَّى يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ طَهُرَ اهـ. وَكَانَ الْمُرَادُ بِالِاشْتِرَاطِ الِاشْتِرَاطَ فِي حُصُولِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَتَرْكُ الْكُلِّ لَا يَضُرُّهُ عِنْدَهُمْ.
قولهُ: (لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ) تَقَدَّمَ أَنَّ كَوْنَ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَيْسَ مَانِعًا مَأْخُوذٌ مِنْ سُقُوطِ غَسْلِ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ وَمَعْنَى هَذَا لَيْسَ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ شَرْعًا بِدَلِيلِهِ فَعَرَّفَنَا ذَلِكَ الدَّلِيلُ أَنَّ قَدْرَهُ وَهُوَ الدِّرْهَمُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُعَرَّفَ فَسُقُوطُهُ أَيْضًا هُوَ لِأَنَّهُ قَدْرُهُ فَيَلْزَمُ الْغَسْلُ إذَا زَادَ بِالْأَصْلِ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَحَلٍّ عَرَفْنَا ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ دِرْهَمٌ آخَرُ مَعَهُ وَإِلَّا لَقِيلَ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ سَاقِطٌ فَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمَانِعُ وَرَاءَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ الزَّائِدُ لَا يُجْزِئُ فِيهِ الْحَجَرُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَإِنْ خَرَجَ الْقَيْحُ أَوْ الدَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَكْفِيه الْحَجَرُ هَذَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ أَوْ أَقَلَّ فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَكْفِيه الْحَجَرُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَكْفِيه وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.

متن الهداية:
(وَلَا يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثٍ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ يُجْزِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي الرَّوْثِ لِلنَّجَاسَةِ، وَفِي الْعَظْمِ كَوْنُهُ زَادَ الْجِنِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (نَهَى عَنْ ذَلِكَ) فَيُكْرَهُ وَيَصِحُّ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ. قُلْتُ مَا بَالُ الْعِظَامِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ «لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلَا بِالْعِظَامِ فَإِنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» وَعَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى طَهَارَةِ الْأَرْوَاثِ كَقول مَالِكٍ بِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَحِلَّ طَعَامًا لِلْجِنِّ إذْ الشَّرِيعَةُ الْعَامَّةُ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي حَقِّ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْجَوَابُ قَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ وَهُوَ قولهُ فِيهَا رِكْسٌ أَوْ رِجْسٌ وَلَا يُجْزِيهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِحَجَرٍ اسْتَنْجَى بِهِ مَرَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَرْفٌ آخَرُ لَمْ يَسْتَنْجِ بِهِ.

متن الهداية:
(وَلَا) يُسْتَنْجَى (بِطَعَامٍ) لِأَنَّهُ إضَاعَةٌ وَإِسْرَافٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ إسْرَافٌ وَإِهَانَةٌ) وَإِذَا كَرِهُوا وَضْعَ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ لِلْإِهَانَةِ فَهَذَا أَوْلَى فَلَوْ فَعَلَ فَأَنْقَى أَثِمَ وَطَهُرَ الْمَحَلُّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ الْمَائِعِ فِي الْبَدَنِ وَكَذَا بِالْعَظْمِ. (وَلَا بِيَمِينِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ) عَنْ أَبِي قَتَادَةُ قال: «إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ وَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

.كِتَابُ الصَّلَاةِ:

.بَابُ الْمَوَاقِيتِ:

(أَوَّلُ وَقْتِ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ) لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ أَمَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا وَكَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَقْتٌ لَك وَلِأُمَّتِك». وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَجْرِ الْكَاذِبِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَبْدُو طُولًا ثُمَّ يَعْقُبُهُ الظَّلَامُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَإِنَّمَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» أَيْ الْمُنْتَشِرُ فِيهِ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الصَّلَاةِ:
بَابُ الْمَوَاقِيتِ:
قولهُ: (لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ: ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَزَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ. وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتْ الْأَرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.اهـ. لَكِنْ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَلَيَّنَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا بِإِسْنَادِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ الْعُمَرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَأَنَّهُ أَكَّدَ تِلْكَ الرِّوَايَةَ بِمُتَابَعَةِ ابْنِ أَبِي بُسْرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُتَابَعَةِ الْعُمَرِيِّ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ إلَخْ وَهِيَ مُتَابَعَةٌ حَسَنَةٌ، كَذَا فِي الْإِمَامِ. وَبَزَقَ بِالزَّايِ: أَيْ بَزَغَ وَهُوَ أَوَّلُ طُلُوعِهِ. وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ الْإِمَامَةِ مِنْ حَدِيثِ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ: «ثُمَّ جَاءَهُ لِلصُّبْحِ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا: يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ، فَقَامَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ كُلُّهُ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي الْبُخَارِيَّ: حَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْمَوَاقِيتِ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ كُلُّهُمْ فِي الصَّوْمِ، وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ».

متن الهداية:
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ) لِإِمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ (وَآخِرُ وَقْتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ وَقَالَا: إذَا صَارَ الظِّلُّ مِثْلَهُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَيْءُ الزَّوَالِ هُوَ الْفَيْءُ الَّذِي يَكُونُ لِلْأَشْيَاءِ وَقْتَ الزَّوَالِ. لَهُمَا إمَامَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَأَشَدُّ الْحَرِّ فِي دِيَارِهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ لَا يَنْقَضِي الْوَقْتُ بِالشَّكِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَوَّلُ وَقْتُ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ) مَعْرِفَةُ الزَّوَالِ أَنْ تَنْصِبَ عَصًا مَثَلًا بَيْنَ أَوْقَاتِ الضُّحَى، فَمَا دَامَ الظِّلُّ يَنْقُصُ فَهِيَ فِي الِارْتِفَاعِ، فَإِذَا أَخَذَ يَزِيدُ فَأَوَّلُ أَخْذِهِ الزَّوَالُ فَلْيُحْفَظْ مِقْدَارُ الظِّلِّ إذْ ذَاكَ، فَإِذَا بَلَغَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ طُولَهُ أَوْ طُولَيْهِ عَلَى الْخِلَافِ مَعَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو إذَا بَلَغَ طُولَهُ مَعَ فَيْءِ الزَّوَالِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ إلَى الطُّولَيْنِ.
وَقَالَ الْمَشَايِخُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَلَّى الْعَصْرُ حَتَّى يَبْلُغَ طُولَيْ الشَّيْءِ وَلَا يُؤَخَّرُ الظُّهْرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ طُولَهُ لِيُخْرَجَ مِنْ الْخِلَافِ فِيهِمَا.
قولهُ: (وَلَهُ قولهُ إلَخْ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» رَوَاهُ السِّتَّةُ. وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ» إلَخْ.
قولهُ: (وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ) يَعْنِي حَدِيثُ الْإِمَامَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَثُبُوتُ التَّعَارُضِ مُتَعَلِّقٌ بِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ أَشَدُّ الْحَرِّ فِي دِيَارِهِمْ إذَا كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَلَا يَنْقَضِي الْوَقْتُ بِالشَّكِّ، بَلْ الظَّاهِرُ اعْتِبَارُ كُلِّ حَدِيثٍ رُوِيَ مُخَالِفًا لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ نَاسِخًا لِمَا خَالَفَهُ فِيهِ لِتَحَقُّقِ تَقَدُّمِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ عَلَى كُلِّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي الْأَوْقَاتِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا عَمِلَهُ إيَّاهَا، بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْبَحْثُ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَدُخُولَ وَقْتِ الْعَصْرِ بِصَيْرُورَةِ الظِّلِّ مَثَلًا غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَالِ، وَنَفْيُ خُرُوجِ الظُّهْرِ بِصَيْرُورَتِهِ مَثَلًا لَا يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إذَا صَارَ مِثْلَيْنِ حَتَّى إنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ الْمُدَّعَى فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ. وَغَايَةُ مَا ظَهَرَ أَنْ يُقَالَ: ثَبَتَ بَقَاءُ وَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ مَثَلًا نَسْخًا لِإِمَامَةِ جِبْرِيلَ فِيهِ فِي الْعَصْرِ بِحَدِيثِ الْإِبْرَادِ وَإِمَامَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ مِثْلَيْنِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَّتَهُ وَلَمْ يُنْسَخْ هَذَا، فَيَسْتَمِرُّ مَا عَلِمَ ثُبُوتَهُ مِنْ بَقَاءِ وَقْتِ الظُّهْرِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ هَذَا الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ كَوْنَهُ وَقْتًا لِلْعَصْرِ.

متن الهداية:
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَلَى الْقوليْنِ وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّ قول جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السلام: «الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ» يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ غَيْرُ الْمَكْرُوهِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ وَكَذَا فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلِذَا قُلْنَا إنَّ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ وَتَأْخِيرَ الْعِشَاءِ إلَى مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مَكْرُوهٌ، وَلِظُهُورِ عَدَمِ صَلَاةِ جِبْرِيلَ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ بِخِلَافِهِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ حَيْثُ لَا يَتَأَتَّى هَذَا فَتَعَيَّنَ النَّسْخُ فِيهِ.

متن الهداية:
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَّ فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَآخِرُ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ» وَمَا رَوَاهُ كَانَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْكَرَاهَةِ (ثُمَّ) الشَّفَقُ هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي فِي الْأُفُقِ بَعْدَ الْحُمْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَا: (هُوَ الْحُمْرَةُ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَآخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إذَا اسْوَدَّ الْأُفُقُ» وَمَا رَوَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَفِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ وَآخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَأَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُهَا وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَنْتَصِفُ اللَّيْلُ، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ» وَخَطَّأَ الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ مُحَمَّدَ بْنَ فُضَيْلٍ فِي رَفْعِهِ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْمَشِ يَرْوُونَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ مِنْ قولهِ، وَدَفَعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ الْقَطَّانِ بِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ مِنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا وَسَمِعَهُ مِنْ أَبِي صَالِحٍ مُسْنَدًا، فَيَكُونُ عِنْدَهُ طَرِيقَانِ مُسْنَدٌ وَمُرْسَلٌ، وَاَلَّذِي رَفَعَهُ: يَعْنِي ابْنَ فُضَيْلٍ صَدُوقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ بُرَيْدَةَ قال: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَقِمْ مَعَنَا، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا، فَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى قُبَيْلِ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ: يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «أَنَّ سَائِلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ» يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ». فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: «وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ».
قولهُ: (وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، فَإِذَا غَابَ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ اخْتَارَ الْفَتْوَى عَلَى رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَقولهِمَا وَلَا تُسَاعِدُهُ رِوَايَةٌ وَلَا دِرَايَةٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ عَنْهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ فُضَيْلٍ وَأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ يَغِيبُ الْأُفُقُ، وَغَيْبُوبَتُهُ بِسُقُوطِ الْبَيَاضِ الَّذِي يَعْقُبُ الْحُمْرَةَ وَإِلَّا كَانَ بَادِيًا، وَيَجِيءُ مَا تَقَدَّمَ: أَعْنِي إذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ لَمْ يَنْقَضِ الْوَقْتُ بِالشَّكِّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رِوَايَةٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّهُ يُقَالُ عَلَى الْحُمْرَةِ يَقولونَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ كَأَنَّهُ الشَّفَقُ كَمَا يُقَالُ عَلَى الْبَيَاضِ الرَّقِيقُ، وَمِنْهُ شَفَقَةُ الْقَلْبِ لِرِقَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّ النَّظَرَ عِنْدَ التَّرْجِيحِ أَفَادَ تَرْجِيحَ أَنَّهُ الْبَيَاضُ هُنَا، وَأَقْرَبُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ الْحُمْرَةُ أَوْ الْبَيَاضُ لَا يَنْقَضِي بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي إبْقَاءِ الْوَقْتِ إلَى الْبَيَاضِ لِأَنَّهُ لَا وَقْتَ مُهْمَلٌ بَيْنَهُمَا فَبِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ اتِّفَاقًا، وَلَا صِحَّةَ لِصَلَاةٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّأْخِيرِ.

متن الهداية:
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إذَا غَابَ الشَّفَقُ، وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ الثَّانِي) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ». وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَقْدِيرِهِ بِذَهَابِ ثُلُثِ اللَّيْلِ.
الشَّرْحُ:
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعِشَاءِ أَنَّهُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ فَقِيلَ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ ذَلِكَ، وَمُلَخَّصُ كَلَامِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا مُوسَى وَالْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَوْا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ»، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّهُ أَعْتَمَ بِهَا حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ»، وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ. قَالَ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَقْتٌ لَهَا، وَلَكِنَّهُ عَلَى أَوْقَاتٍ ثَلَاثَةٍ، إلَى الثُّلُثِ أَفْضَلُ، وَإِلَى النِّصْفِ دُونَهُ، وَمَا بَعْدَهُ دُونَهُ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: وَصَلِّ الْعِشَاءَ أَيَّ اللَّيْلِ شِئْت وَلَا تَغْفُلْهَا. وَلِمُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ التَّعْرِيسِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى»، فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ إلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى، وَدُخُولُ الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْوَتْرِ فَهُوَ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوَتْرُ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَسَيَأْتِي تَمَامُ مَا تَيَسَّرَ فِيهِ فِي بَابِ الْوَتْرِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ دَلِيلُهُمَا عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.

متن الهداية:
(وَأَوَّلُ وَقْتِ الْوَتْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَآخِرُهُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْوَتْرِ «فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتُهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ لِلتَّرْتِيبِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ لِلتَّرْتِيبِ) فَلَوْ قَدَّمَ نَاسِيًا لَا يُعِيدُ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ثُمَّ نَامَ فَقَامَ تَوَضَّأَ فَصَلَّى الْوَتْرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ يُعِيدُهَا دُونَ الْوِتْرِ فِيهِمَا وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُهُمَا. وَمَنْ لَا يُوجَدُ عِنْدَهُمْ وَقْتُ الْعِشَاءِ كَمَا قِيلَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ عِنْدَهُمْ، أَفْتَى الْبَقَّالِيُّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ السَّبَبِ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْكَنْزِ كَمَا يَسْقُطُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مِنْ الْوُضُوءِ عَنْ مَقْطُوعِهِمَا مِنْ الْمَرْفِقَيْنِ، وَأَنْكَرَهُ الْحَلْوَانِيُّ ثُمَّ وَافَقَهُ، وَأَفْتَى الْإِمَامُ الْبُرْهَانِيُّ الْكَبِيرُ بِوُجُوبِهَا، وَلَا يَرْتَابُ مُتَأَمِّلٌ فِي ثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَبَيْنَ سَبَبِهِ الْجَعْلِيِّ الَّذِي جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى الْوُجُوبِ الْخَفِيِّ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَجَوَازِ تَعَدُّدِ الْمُعَرِّفَاتِ لِلشَّيْءِ، فَانْتِفَاءُ الْوَقْتِ انْتِفَاءُ الْمُعَرِّفِ، وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءً لِجَوَازِ دَلِيلٍ آخَرَ وَقَدْ وُجِدَ، وَهُوَ مَا تَوَاطَأَتْ أَخْبَارُ الْإِسْرَاءِ مِنْ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّلَاةَ خَمْسًا بَعْدَ مَا أُمِرُوا أَوَّلًا بِخَمْسِينَ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْخَمْسِ شَرْعًا عَامًّا لِأَهْلِ الْآفَاقِ، لَا تَفْصِيلَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ قُطْرٍ وَقُطْرٍ وَمَا رُوِيَ «ذَكَرَ الدَّجَّالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْنَا مَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَيَكْفِينَا صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا؛ اُقْدُرُوا لَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَقَدْ أَوْجَبَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَثِمِائَةِ عَصْرٍ قَبْلَ صَيْرُورَةِ الظِّلِّ مَثَلًا أَوْ مِثْلَيْنِ، وَقِسْ عَلَيْهِ، فَاسْتَفَدْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَمْسٌ عَلَى الْعُمُومِ، غَيْرَ أَنَّ تَوْزِيعَهَا عَلَى تِلْكَ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَلَا يَسْقُطُ بِعَدَمِهَا الْوُجُوبُ، وَكَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ» ثُمَّ هَلْ يَنْوِي الْقَضَاءَ؟ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْوِي الْقَضَاءَ لِفَقْدِ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَمَنْ أَفْتَى بِوُجُوبِ الْعِشَاءِ يَجِبُ عَلَى قولهِ الْوِتْرُ أَيْضًا.

.(فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْجِيلِ):

(وَيُسْتَحَبُّ الْإِسْفَارُ بِالْفَجْرِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُسْتَحَبُّ التَّعْجِيلُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ وَمَا نَرْوِيهِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْجِيلِ).
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُسْتَحَبُّ التَّعْجِيلُ بِكُلِّ صَلَاةٍ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ، وَالْعَفْوُ يَسْتَدْعِي تَقْصِيرًا» وَقَالَ فِي جَوَابِ «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا».
قولهُ: (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ) فِي تَعْمِيمِهِ وَأَنَّ الْوَاقِعَ التَّفْصِيلُ (مَا رَوَيْنَاهُ) مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَجْرِ «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَبَيُّنُ الْفَجْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَكٌّ فِي طُلُوعِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ مَا لَمْ يُتَبَيَّنْ لَا يُحْكَمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فَضْلًا عَنْ إصَابَةِ الْأَجْرِ الْمُفَادِ بِقولهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، وَلَوْ صُرِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى عَظِيمٍ كَانَ الْمُنَاسِبُ فِي التَّعْلِيلِ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي إفَادَةِ قَصْدِ عَدَمِ إيقَاعِهَا مَعَ شَكِّ الطُّلُوعِ، فَكَيْفَ وَصَرْفُهُ عَنْهُ بِلَا دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ، بَلْ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ مَا يَنْفِيه وَهُوَ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَكُلَّمَا أَسْفَرْتُمْ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ أَوْ قَالَ لِأُجُورِكُمْ» وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مَا اجْتَمَعُوا عَلَى التَّنْوِيرِ. وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا فَارَقَهُمْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ لِعِلْمِهِمْ بِنَسْخِ التَّغْلِيسِ الْمَرْوِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ فَتَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ» وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيمَ ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَهُوَ قوله: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِمِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ» وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الَّذِي اعْتَادَ الْأَدَاءَ فِيهِ لِأَنَّهُ غَلَسٌ يَوْمَئِذٍ لِيَمْتَدَّ وَقْتُ الْوُقُوفِ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسلم: «قَبْلَ مِيقَاتِهَا بِغَلَسٍ» فَأَفَادَ أَنَّ الْمُعْتَادَ كَانَ غَيْرَ التَّغْلِيسِ، إلَّا أَنَّهُ يَبْعُدُ النَّسْخُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي سَابِقَةَ وُجُودِ الْمَنْسُوخِ. وَقولهُ مَا رَأَيْت يُفِيدُ أَنْ لَا سَابِقَةَ لَهُ فَالْأَوْلَى حَمْلُ التَّغْلِيسِ عَلَى غَلَسٍ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ حُجْرَتَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ فِيهِ وَكَانَ سَقْفُهُ عَرِيشًا مُقَارِبًا وَنَحْنُ نُشَاهِدُ الْآنَ أَنَّهُ يُظَنُّ قِيَامُ الْغَلَسِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَأَنَّ صَحْنَهُ قَدْ انْتَشَرَ فِيهِ ضَوْءُ الْفَجْرِ وَهُوَ الْإِسْفَارُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ هَذَا الِاعْتِبَارُ لِمَا وَجَبَ مِنْ تَرْجِيحِ رِوَايَةِ الرِّجَالِ خُصُوصًا مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّ الْحَالَ أَكْشَفُ لَهُمْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. ثُمَّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي الْفَجْرِ فِي وَقْتِ التَّغْلِيسِ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا فِي وَقْتِ الْإِسْفَارِ قَالَ: وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَ الْأَصْحَابُ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْإِسْفَارِ وَيَخْتِمَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُ اللَّفْظُ، فَإِنَّ الْإِسْفَارَ بِالْفَجْرِ إيقَاعُهَا فِيهِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِهَا فَيَلْزَمُ إدْخَالُ مَجْمُوعِهَا فِيهِ، قَالُوا: وَحَدُّهُ أَنْ يَبْدَأَ فِي وَقْتٍ يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ أَدَائِهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مَا لَوْ ظَهَرَ لَهُ فَسَادُ صَلَاتِهِ أَعَادَهَا بِقِرَاءَةٍ مَسْنُونَةٍ مُرَتَّلَةٍ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ آيَةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا يَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّغْلِيسَ إلَّا مَنْ لَمْ يَضْبِطْ ذَلِكَ الْوَقْتَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَذَانِ الْفَجْرِ وَالصَّلَاةِ قَالَ: يُؤَذِّنُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَمْكُثُ قَدْرَ قِرَاءَةِ عِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ يَثُوبُ ثُمَّ يَمْكُثُ قَدْرَ عِشْرِينَ آيَةً ثُمَّ يُقِيمُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَشْرَعَ وَأَطْرَافُ الْغَلَسِ قَائِمَةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِ إسْفَارًا مَا، وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ مَنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ التَّطْوِيلُ بَدَأَ بِغَلَسٍ وَمَنْ لَا أَسْفَرَ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي سُنِّيَّةِ التَّغْلِيسِ بِفَجْرِ مُزْدَلِفَةٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ وَتَقْدِيمُهُ فِي الشِّتَاءِ) لِمَا رَوَيْنَا وَلِرِوَايَةِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ بَكَّرَ بِالظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ أَبْرَدَ بِهَا». (وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ الشَّمْسُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ النَّوَافِلِ لِكَرَاهَتِهَا بَعْدَهُ، وَالْمُعْتَبَرُ تَغَيُّرُ الْقُرْصِ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ بِحَالٍ لَا تَحَارُ فِيهِ الْأَعْيُنُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالتَّأْخِيرُ إلَيْهِ مَكْرُوهٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِمَا رَوَيْنَا) أَيْ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ» (وَلِرِوَايَةِ أَنَسٍ إلَخْ) فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ «خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ صَلَّى بِنَا أَمِيرُنَا الْجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ لِأَنَسٍ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ». وَالْمُرَادُ الظُّهْرُ لِأَنَّهُ جَوَابُ السُّؤَالِ عَنْهَا.
قولهُ: (وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ) حَاصِلُهُ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى تَغَيُّرِ الْقُرْصِ مَكْرُوهٌ، وَيُسْتَحَبُّ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِيَتَوَسَّعَ فِي النَّوَافِلِ لَا إلَى التَّغَيُّرِ بَلْ يُصَلِّيهَا وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ «وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ صَيْرُورَةِ الظِّلِّ مِثْلَيْنِ مَعَ فَيْءِ الزَّوَالِ وَمِنْهُ إلَى التَّغَيُّرِ لَيْسَ كَثِيرًا جِدًّا، فَلَا بُعْدَ فِي كَوْنِ الْأَدَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى التَّعْجِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ تَعْجِيلًا شَدِيدًا. وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَذَانِ الظُّهْرِ وَالصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ رَكْعَتَيْنِ كُلَّ رَكْعَةٍ بِعَشْرِ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا كُلًّا بِخَمْسِ آيَاتٍ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: دَخَلْت مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بِالْعَصْرِ وَشَيْخٌ جَالِسٌ فَلَامَهُ، وَقَالَ: إنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِتَأْخِيرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ»، فَسَأَلْت عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. وَضَعَّفَ بِعَبْدِ الْوَاحِدِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَقَالَ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ: يَعْنِي عَبْدَ الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ عَنْ رَافِعٍ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ رَافِعٍ «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ يُنْحَرُ الْجَزُورُ فَيُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ ثُمَّ يُطْبَخُ فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ» وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَمْكَنَ فِي الْبَاقِي إلَى الْغُرُوبِ مِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ، وَمَنْ يُشَاهِدْ الْمَهَرَةَ مِنْ الطَّبَّاخِينَ فِي الْأَسْفَارِ مَعَ الرُّؤَسَاءِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَ) يُسْتَحَبُّ (تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ) لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ) هُوَ بِأَنْ لَا يُفْصَلَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ إلَّا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ أَوْ سَكْتَةٍ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَيَأْتِي: وَتَأْخِيرُهَا لِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ مَكْرُوهٌ، وَهِيَ خِلَافِيَّةٌ وَسَتُذْكَرُ فِي بَابِ النَّوَافِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ فِي الْقُنْيَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا، وَمَا رَوَى الْأَصْحَابُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا حَتَّى بَدَا نَجْمٌ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَرَاهَةٌ هُوَ مَا قَبْلَ ظُهُورِ النَّجْمِ، وَفِي الْمُنْيَةِ لَا يُكْرَهُ فِي السَّفَرِ وَلِلْمَائِدَةِ أَوْ كَانَ يَوْمُ غَيْمٍ، وَفِي الْقُنْيَةِ لَوْ أَخَّرَهَا بِتَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ خِلَافٌ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ وَلَا يَبْعُدُ، وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ التَّشَبُّهُ بِالْيَهُودِ. وَأَمَّا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ» إلَخْ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى مِصْرَ، فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ، فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ يَا عُقْبَةُ؟ قَالَ شُغِلْنَا، قَالَ: أَمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لَا تَزَلْ أُمَّتِي بِخَيْرٍ» أَوْ قال: «عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» فِيهِ نَظَرٌ إذْ مُقْتَضَاهُ نَدْبٌ، وَبِتَقْدِيرِهِ تَفْوِيتُ مَا نَدَبَ إلَيْهِ لَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي الْعِشَاءِ يَنْدُبُ تَأْخِيرُهَا إلَى مَا قَبْلَ الثُّلُثِ وَيُصَلِّيهَا إذْ ذَاكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ إلَى النِّصْفِ انْتَفَى النَّدْبُ وَكَانَ مُبَاحًا، وَمَا بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ، وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ ضَمَانُ الْخَيْرِ وَالْفِطْرَةِ، أَيْ السُّنَّةِ بِالتَّعَجُّلِ، وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ ضِدِّهِمَا فِي التَّأْخِيرِ لِجَوَازِ حُصُولِهِمَا مَعَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى قولهِ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ، هَذَا إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِتَوْثِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ الْحَقُّ الْأَبْلَجُ، وَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ لَا يَثْبُتُ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَقْبَلْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ. وَرَوَى عَنْهُ مِثْلُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ إدْرِيسَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَيَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَعَبْدِ الْوَارِثِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَاحْتَمَلَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَدْ أَطَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَوْثِيقِهِ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَنَّ مَالِكًا رَجَعَ عَنْ الْكَلَامِ فِي ابْنِ إِسْحَاقَ وَاصْطَلَحَ مَعَهُ وَبَعَثَ إلَيْهِ هَدِيَّةً ذَكَرَهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى مَا قَبْلَ ثُلُثِ اللَّيْلِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» وَلِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ السَّمَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَعْدَهُ، وَقِيلَ فِي الصَّيْفِ تُعَجَّلُ كَيْ لَا تَتَقَلَّلَ الْجَمَاعَةُ، وَالتَّأْخِيرُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ مُبَاحٌ لِأَنَّ دَلِيلَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ عَارَضَهُ دَلِيلُ النَّدْبِ وَهُوَ قَطْعُ السَّمَرِ بِوَاحِدَةٍ فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ وَإِلَى النِّصْفِ الْأَخِيرِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ انْقَطَعَ السَّمَرُ قَبْلَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي») رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قولهُ: (وَهُوَ قَطْعُ السَّمَرِ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى مَا رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِم: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا»، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا رَوَوْهُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ السَّمَرَ بَعْدَهَا فِي الْخَيْرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا سَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ» يَعْنِي الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: مُصَلٍّ، أَوْ مُسَافِرٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ «أَوْ عَرُوسٍ» وَحَدِيثُ «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَتَمَامُه: «فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ» وَذَلِكَ أَفْضَلُ.
قولهُ: (فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ مَلْزُومٌ لِأَمْرَيْنِ مَكْرُوهٌ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ. وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ قَطْعُ السَّمَرِ. وَإِذَا لَزِمَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَنْدُوبِ كَقَطْعِ السَّمَرِ ارْتِكَابُ مَكْرُوهٍ تُرِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلَ، فَيَنْبَغِي كَوْنُ التَّأْخِيرِ إلَى النِّصْفِ مَطْلُوبَ التَّرْكِ فَلَا يَكُونُ مُبَاحًا، لِأَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُبَاحِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

متن الهداية:
(وَيُسْتَحَبُّ فِي الْوَتْرِ لِمَنْ يَأْلَفُ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِالِانْتِبَاهِ أَوْتَرَ قَبْلَ النَّوْمِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ». (فَإِذَا كَانَ يَوْمُ غَيْمٍ فَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ تَأْخِيرُهَا، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ تَعْجِيلُهُمَا) لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ تَقْلِيلَ الْجَمَاعَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَطَرِ، وَفِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ تَوَهُّمَ الْوُقُوعِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَلَا تَوَهُّمَ فِي الْفَجْرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ مَدِيدَةٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ التَّأْخِيرُ فِي الْكُلِّ لِلِاحْتِيَاطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ.

.(فَصْلٌ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ):

(لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ قِيَامِهَا فِي الظَّهِيرَةِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا) لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَعِنْدَ زَوَالِهَا حَتَّى تَزُولَ، وَحِينَ تَضِيفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» وَالْمُرَادُ بِقولهِ وَأَنْ نَقْبُرَ: صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ الدَّفْنَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَالْحَدِيثُ بِإِطْلَاقِهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَخْصِيصِ الْفَرَائِضِ، وَبِمَكَّةَ فِي حَقِّ النَّوَافِلِ، وَحُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِي إبَاحَةِ النَّفْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الزَّوَالِ قَالَ: (وَلَا صَلَاةُ جِنَازَةٍ) لِمَا رَوَيْنَا (وَلَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ (إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ الْغُرُوبِ) لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الْقَائِمُ مِنْ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِالْكُلِّ لَوَجَبَ الْأَدَاءُ بَعْدَهُ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْجُزْءِ الْمَاضِي فَالْمُؤَدِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ قَاضٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ. قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ الْكَرَاهَةُ، حَتَّى لَوْ صَلَّاهَا فِيهِ أَوْ تَلَا سَجْدَةً فِيهِ فَسَجَدَهَا جَازَ لِأَنَّهَا أُدِّيَتْ نَاقِصَةً كَمَا وَجَبَتْ إذْ الْوُجُوبُ بِحُضُورِ الْجِنَازَةِ وَالتِّلَاوَةِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ) اسْتَعْمَلَ الْكَرَاهَةَ هُنَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَيَشْمَلُ عَدَمَ الْجَوَازِ وَغَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ الْعَدَمِ، أَوْ هُوَ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ وَالْمُرَادُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ الظَّنِّيَّ الثُّبُوتِ غَيْرَ الْمَصْرُوفِ عَنْ مُقْتَضَاهُ يُفِيدُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيُّهُ أَفَادَ التَّحْرِيمَ فَالتَّحْرِيمُ فِي مُقَابَلَةِ الْفَرْضِ فِي الرُّتْبَةِ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَالتَّنْزِيهُ بِرُتْبَةِ الْمَنْدُوبِ وَالنَّهْيِ الْوَارِدِ مِنْ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ إنْ كَانَتْ لِنُقْصَانٍ فِي الْوَقْتِ مُنِعَتْ أَنْ يَصِحَّ فِيهِ مَا تَسَبَّبَ عَنْ وَقْتٍ لَا نَقْصَ فِيهِ لَا لِأَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ بَلْ لِعَدَمِ تَأَدِّي مَا وَجَبَ كَامِلًا نَاقِصًا، فَلِذَا قَالَ عَقِيبَ تَرْجَمَتِهِ بِالْكَرَاهَةِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَخْ، لَكِنْ إنْ أُرِيدَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمُ الصِّحَّةِ وَالصَّلَاةُ عَامٌّ لَمْ يُصَدَّقْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي نَفْلٍ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ صَحَّ شُرُوعُهُ حَتَّى وَجَبَ قَضَاؤُهُ إذَا قَطَعَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ. وَيَجِبُ قَطْعُهُ وَقَضَاؤُهُ فِي غَيْرِ مَكْرُوهٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ أَتَمَّهُ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا لَزِمَهُ بِذَلِكَ الشُّرُوعِ، وَفِي الْمَبْسُوطِ الْقَطْعُ أَفْضَلُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ الْحِلِّ: كَانَ أَعَمَّ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ خُصُوصُ مَا هُوَ حُكْمُ الْقَضَاءِ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْإِفَادَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقْصُودَهُ الثَّانِي، وَلِذَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِه: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ الْحِلِّ فِي جِنْسِ الصَّلَاةِ دُونَ عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي بَعْضِهَا بِخُصُوصِهِ. وَالْمُفِيدُ لَهَا إنَّمَا هُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، وَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا، وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالنَّسَائِيُّ، فَإِنَّهُ أَفَادَ كَوْنَ الْمَنْعِ لِمَا اتَّصَلَ بِالْوَقْتِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ فِعْلُ الْأَرْكَانِ فِيهِ التَّشَبُّهَ بِعِبَادَةِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِنُقْصَانِ الْوَقْتِ وَإِلَّا فَالْوَقْتُ لَا نَقْصَ فِيهِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَقْتٌ كَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ إنَّمَا النَّقْصُ فِي الْأَرْكَانِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهَا مَا وَجَبَ كَامِلًا فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ لَوْ تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ مَعَ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ تَأَدَّى بِهَا الْكَامِلُ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَا يُدْخِلُ النَّقْصَ فِي الْأَرْكَانِ الَّتِي هِيَ الْمُقَوَّمَةُ لِلْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ فِعْلِ الْأَرْكَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَعَنْ الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَسْلَمَ وَبَلَغَ وَأَفَاقَ فِي الْجُزْءِ الْمَكْرُوهِ فَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِمْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ كُلَّ الْوَقْتِ حِينَ خَرَجَ إذْ لَمْ يُدْرِكُوا مَعَ الْأَهْلِيَّةِ إلَّا ذَلِكَ الْجُزْءَ فَلَيْسَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا إيَّاهُ، وَمَعَ هَذَا لَوْ قَضَوْا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ، إذْ لَا نَقْصَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ بَلْ الْمَفْعُولُ فِيهِ يَقَعُ نَاقِصًا، غَيْرَ أَنَّ تَحَمُّلَ ذَلِكَ النَّقْصِ لَوْ أَدَّى فِيهِ الْعَصْرَ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُوجَدْ النَّقْصُ الضَّرُورِيُّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَامِلٌ فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ كَذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِكَامِلٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَضَى فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ مَا قَطَعَهُ مِنْ النَّفْلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ حَيْثُ يُخْرِجُهُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا، لِأَنَّ وُجُوبَهُ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ لَيْسَ غَيْرَ، وَالصَّوْنُ عَنْ الْبُطْلَانِ يَحْصُلُ مَعَ النُّقْصَانِ، وَكَذَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهُمَا لِإِظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ بِالِانْقِيَادِ وَقَضَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ النُّقْصَانِ، أَوْ نَقول عِنْدَ التِّلَاوَةِ يُخَاطِبُ بِالْأَدَاءِ مُوَسَّعًا وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَحَمُّلُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ النَّقْصِ لَوْ أَدَّى عِنْدَهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا تُلِيَتْ فِي غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَدَائِهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ مُوَسَّعًا فَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي مَكْرُوهٍ، هَذَا الْوَجْهُ أَسْلَمُ إذْ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلُ جَوَازَ أَدَائِهَا فِي مَكْرُوهٍ وَإِنْ تُلِيَتْ فِي غَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ بِعَيْنِهِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَهُوَ مَعْنَى قول الْمُصَنِّفِ حَتَّى لَوْ صَلَّاهَا فِيهِ أَوْ تَلَا سَجْدَةً فِيهِ وَسَجَدَهَا إلَى قولهِ: إذْ الْوُجُوبُ بِحُضُورِ الْجِنَازَةِ وَالتِّلَاوَةِ، يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ الْأَوْلَى تَأْخِيرُهُمَا إذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهُمَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.
وَفِي التُّحْفَةِ إذَا حَضَرَتْ جِنَازَةٌ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ وَلَا يُؤَخِّرَهَا، بِخِلَافِ الْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ لِعَيْنِهَا: أَيْ ابْتِدَاءَ إقَامَةِ فَرَائِضِ الْمَلِكِ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقَّةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَوْهَامًا بَعْدَ إتْقَانِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
قولهُ: (حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَخْصِيصِ الْفَرَائِضِ) أَيْ الْمَقْضِيَّاتِ، وَبِمَكَّةَ أَيْ وَتَخْصِيصُ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا بِمَكَّةَ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا وَعَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إبَاحَةِ النَّفْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الزَّوَالِ، أَمَّا إخْرَاجُ الْفَرَائِضِ فَبِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا بِمَكَّةَ فَحَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مرفوعا: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» وَبِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي مَعْنَاهُ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: انْقِطَاعٌ مَا بَيْنَ مُجَاهِدٍ وَأَبِي ذَرٍّ فَإِنَّهُ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ، وَضُعِّفَ ابْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَضُعِّفَ حُمَيْدٍ مَوْلَى عَفْرَاءَ، وَاضْطِرَابُ سَنَدِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَدْخَلَ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ بَيْنَ حُمَيْدٍ هَذَا وَبَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنْ الْبَيْنِ. وَأَمَّا إخْرَاجُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَفِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» أَمَّا حَدِيثُ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ» فَهُوَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فِي الصَّلَاةِ لَكِنَّ كَوْنَهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِهَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ مُعَارِضٌ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَيُقَدَّمُ حَدِيثُ عُقْبَةَ لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى طَرِيقِهِمْ فِي كَوْنِ الْخَاصِّ مُخَصِّصًا كَيْفَمَا كَانَ فَهُوَ خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ وَجَبَ تَخْصِيصُهُ عُمُومَ الصَّلَاةِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَجَبَ تَخْصِيصُ حَدِيثِ عُقْبَةَ عُمُومَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ خَاصٌّ فِي الْوَقْتِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْوَقْتِ هُوَ إخْرَاجُهُ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ مِنْ عُمُومِ وَقْتِ التَّذَكُّرِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْآخَرِ هُوَ إخْرَاجُ الْفَوَائِتِ عَنْ عُمُومِ مَنْعِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَتَعَارَضَانِ فِي الْفَائِتَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، إذْ تَخْصِيصُ حَدِيثِ عُقْبَةَ يَقْتَضِي إخْرَاجَهَا عَنْ الْحِلِّ فِي الثَّلَاثَةِ، وَتَخْصِيصُ حَدِيثِ التَّذَكُّرِ لِلْفَائِتَةِ مِنْ عُمُومِ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي حِلَّهَا فِيهَا، وَيَكُونُ إخْرَاجُ حَدِيثِ عُقْبَةَ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ مَكَّةَ فَبَعْدَ التَّنَزُّلِ فِيهِ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ وَالْوَقْتِ فَيَتَعَارَضُ عُمُومُهُمَا فِي الصَّلَاةِ، وَيُقَدَّمُ حَدِيثُ عُقْبَةَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا يَتَعَارَضَانِ فِي الْوَقْتِ إذْ الْخَاصُّ يُعَارِضُ الْعَامَّ عِنْدَنَا، وَعَلَى أُصُولِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَخُصَّ مِنْهُ حَدِيثُ عُقْبَةَ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّهُ خَاصٌّ فِيهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْوَاقِعُ بَعْدَ التَّنَزُّلِ فِيهِ أَيْضًا اسْتِثْنَاءُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَنَا تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي فَيَكُونُ حَاصِلُهُ نَهْيًا مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ بِغَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُقْبَةَ الْمُعَارِضُ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ، وَقَدْ يُقَالُ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِاتِّحَادِهِمَا حُكْمًا وَحَادِثَةً.
قولهُ: (وَالْمُرَادُ إلَخْ) اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَحَمَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَلَى الصَّلَاةِ كَالْمُصَنِّفِ، وَكَذَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَحَمَلَهُ أَبُو دَاوُد عَلَى الدَّفْنِ الْحَقِيقِيِّ، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ شَاهِينِ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى مَوْتَانَا عِنْدَ ثَلَاثٍ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» الْحَدِيثُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ: وَرَوَاهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ وَزَادَ فِيهِ: قُلْت لِعُقْبَةَ أَيُدْفَنُ بِاللَّيْلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ دُفِنَ أَبُو بَكْرٍ.

متن الهداية:
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْتَفِلَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ الْفَوَائِتَ وَيَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ وَيُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ) لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ كَانَتْ لِحَقِّ الْفَرْضِ لِيَصِيرَ الْوَقْتُ كَالْمَشْغُولِ بِهِ لَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ فَلَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ، وَفِيمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَظَهَرَتْ فِي حَقِّ الْمَنْذُورِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَفِي حَقِّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَفِي الَّذِي شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ خَتْمُ الطَّوَافِ وَصِيَانَةُ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُتَنَفَّلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ (وَلَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَ الْغُرُوبِ قَبْلَ الْفَرْضِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ (وَلَا إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ) مِنْ خُطْبَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (نَهَى عَنْ ذَلِكَ) فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْهَا قَالَتْ: وَهِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ وَغُرُوبُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا فَتُصَلُّوا عِنْدَ ذَلِكَ» وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ أَيْمَنَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «وَاَلَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ حَتَّى ثَقُلَ عَنْ الصَّلَاةِ، وَكَانَ يُصَلِّيهِمَا وَلَا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ تَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَنْهُمْ»، فَالْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَهُمَا جَبْرًا لِمَا فَاتَهُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ أَوْ قَبْلَ الْعَصْرِ حِينَ شُغِلَ عَنْهُمَا، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ فَدَاوَمَ عَلَيْهِمَا وَكَانَ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُمَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا فِي مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالْمَغَازِي عَنْ كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ وَمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَرْسَلُوهُ إلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَام مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَقُلْ بَلَغَنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهَا وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُمَا، قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرْتُهَا، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ فَرَجَعْتُ إلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ، فَرَدُّونِي إلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُمَا ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَهُمَا هَاتَانِ». وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ «أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا أَوْ نَسِيَهُمَا فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا» يَعْنِي دَاوَمَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ جِهَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَدَّثَتْه: «بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَيَنْهَى عَنْهُمَا وَيُوَاصِلُ وَيَنْهَى عَنْ الْوِصَالِ». وَاسْتَفَدْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ تَرَدُّدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيمَا جَزَمَتْ بِهِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ قولهَا وَهِمَ عُمَرُ إلَخْ، فَإِنَّ إحَالَتَهَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ اسْتِعْلَامِ السَّائِلِ الْحُكْمَ يُفِيدُ تَرَدُّدَهَا أَوْ التَّقَوِّي بِمُوَافَقَتِهَا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَضْرِبُ عَلَيْهِمَا. فِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ الْمَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْمُتَقَرِّرَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَدَمُ جَوَازِهِمَا، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ دَأْبَهُ لَا أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ مَرَّةً فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ أَوْ يَجُوزُ رُجُوعُهُ كَمَا يُفِيدُ قول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ الْأَيْدِيَ عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ إلَخْ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا دَلَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ النَّظَرُ إلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ نَقِيضَ قولهِمْ الْعِبْرَةُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مُعَارَضَةَ النَّصِّ بِالْمَعْنَى، وَالنَّظَرُ إلَى النُّصُوصِ يُفِيدُ مَنْعَ الْقَضَاءِ تَقْدِيمًا لِلنَّهْيِ الْعَامِّ عَلَى حَدِيثِ التَّذَكُّرِ. نَعَمْ يُمْكِنُ إخْرَاجُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ. وَيَكْفِي فِي إخْرَاجِ الْقَضَاءِ مِنْ الْفَسَادِ الْعِلْمُ بِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ، وَأَمَّا مِنْ الْكَرَاهَةِ فَفِيهِ مَا سَبَقَ.
قولهُ: (وَفِيمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ) الْمُرَادُ بِمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُهُ بِعَارِضٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ نَفْلًا كَالْمَنْذُورِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ كَمُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَمُوَافَقَةِ الْأَبْرَارِ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَقَضَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ الْمَنْذُورُ، وَلَا أَثَرَ لِإِيجَابِ الْعَبْدِ كَمَا لَا أَثَرَ لِتِلَاوَتِهِ فِي إثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ فِي السَّجْدَةِ. وَقَدْ يُقَالُ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فِي التَّحْقِيقِ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّمَاعِ لَا بِالِاسْتِمَاعِ وَلَا التِّلَاوَةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِعْلًا مِنْ الْمُكَلَّفِ بَلْ وَصْفٌ خُلُقِيٌّ فِيهِ، بِخِلَافِ النَّذْرِ وَالطَّوَافِ وَالْمَشْرُوعِ فِيهِ وَلَوْلَاهُ لَكَانَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا.
قولهُ: (لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَخْ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.
وَفِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا سَجْدَتَيْنِ» لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ.
وَفِي التَّجْنِيسِ: تَطَوَّعَ آخِرُ اللَّيْلِ فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَةً طَلَعَ الْفَجْرُ. الْإِتْمَامُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّنَفُّلُ بَعْدَ الْفَجْرِ لَا عَنْ قَصْدِهِ.
وَفِي الْمُجْتَبَى: تُخَفَّفُ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. هَذَا. وَمِمَّا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ النَّافِلَةُ فِيهِ بَعْدَ الْغُرُوبِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالْكُسُوفِ وَالْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: لَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ بِعَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَا كَرَاهَةُ الْكَلَامِ، يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّي إلَّا بِخَيْرٍ وَبَعْدَ الصَّلَاةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَبِالْمَشْيِ فِي حَاجَتِهِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ إلَى الشَّمْسِ، وَقِيلَ إلَى ارْتِفَاعِهَا، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ أَبَاحَهُ قَوْمٌ وَحَظَرَهُ قَوْمٌ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا، وَالْمُرَادُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخَيْرُ فِي كَلَامٍ هُوَ عِبَادَةٌ فَإِنَّ الْمُبَاحَ لَا خَيْرَ فِيهِ كَمَا لَا إثْمَ فِيهِ، وَسَنَعْقِدُ لِلرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَلَامًا فِي بَابَ النَّوَافِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.